د. مصطفى محمود
كنا عائدين من أداء الواجب حينما قال لي صديقي: ـ أنعيش في كذب دائم ؟ ألا يوجد صدق ؟ قلت له: ـ بل نحن نصدق دائما ولكنه صدق محدود‏, ‏صدق لحظتها.. كلماتنا عمرها عمر الرسم علي الماء والنقش علي الرمال.. وهي في العادة صادقة في حدود هذا العمر القصير إلا فيما ندر‏.‏ ـ وبعد ذلك‏.‏ ـ بعد ذلك تتغير الظروف وتتبدل الملابسات وتمتحن العواطف والأقوال والأعمال.. وتبتلي النفوس في جواهرها وتتقلب القلوب.. ويأتي بعد الليل النهار وبعد النهار الليل.. فنحن علي أرض تدور.. أليس كذلك‏.‏ ـ ألا يوجد حب يصمد للامتحان ألا يوجد حب باق؟ ـ أحيانا.. ولكن هذا الحب الباقي في العادة تعيا عن حمله الكلمات.. والذي يحب هذا الحب إذا حاول أن يعبر عن نفسه لا يخرج منه إلا كلاما عبيطا.. أو عبارات بلا معني.. ومثل هذا الحب يكون في أغلب الأحوال أزمة في الصدر وعطشا خلف الضلوع لا ارتواء له ولا حل له‏.‏ ـ إني أتمني أن تحبني امرأة هذا الحب‏.‏ ـ إني لا أتمني أن تحبني امرأة هذا الحب أبدا‏.‏ ـ لم؟ ـ لأن المرأة التي تحب هذا الحب لا تسامح.. إنها تري نفسها قد أعطت روحها فلا أقل أن تأخذ روحي والذين يحبون هذا الحب هم بين قاتل ومقتول وأنا لا أحب أن أكون أحدهما‏.‏ ـ بل هو الحب الرائع‏.‏ ـ بل هو الإشراك بعينه وعبادة المخلوق من دون الخالق‏, ‏وهذا ما قاله الإمام الغزالي في حب المرأة الواحدة إذا كان استغراقا وصبابة.. قال إنه السقوط في الشرك... ولهذا أباح الإسلام تعدد الزوجات ليحول دون هذا الاستئثار.. وحتي لا يكون التوحيد إلا لله‏.‏ ـ وهل تظن أنك تختار قدرك.. ألا يمكن أن يداهمك هذا النوع من الحب برغم أنفك‏, ‏فلا تملك منه فكاكا؟ ـ إنه يكون مصيبة.. وكارثة وأسرا.. وسجنا.. وأغلالا.. ومثل هذا الحب لا يكتبه الله إلا علي عبد غضب عليه ولعنه وأضله وأرجو ألا أكون من المغضوب عليهم ولا من الضالين.. وأرجو أن أعرف معبودي فلا أضل عنه وأنه هو الله وحده جامع الكمالات.. الأجمل من كل جميل.. مهوي الأفئدة وسكن الأرواح‏.‏ ـ وماذا للمرأة المثلي عندك؟ ـ لها عندي المودة والرحمة والصحبة الطيبة.. ولا أكثر.. لا غل ولا قيد ولا أسر.. وإنما ضيافة كريمة يستضيف فيها كل منا الآخر مدي أيام الدنيا الشقية ويعاونه علي تحملها‏.‏ ـ سوف أعيش وأفرح فيك وأراك بإذن الله في الأسر والغل والقيد غريقا لشوشتك في أذيال امرأة حتي تتوب عن تعذيبنا‏.‏ ـ تبت‏.. ‏ولا داعي للبلاء.. اللهم لا تدخلنا في تجربة.. اللهم لا تكتب علي إلا حبك‏.‏ ـ وهل يتنافي حب الله مع حب الناس؟ ـ بل هو يدعو إلى حب الناس ولكن بلا غل وبلا قيود وبلا عبودية.. حب المودة والرحمة لا سعار الغرام وضرام الشهوات‏.‏ ـ وهل يمكن أن يغنيك حب الله عن الحاجة إلى غرام بشري؟ ـ نعم إذا استطعت أن أفهم معني النظر إلى وجهه ومعني أن كل شيء هالك إلا وجهه.. ومعني أن عشق الهالكين هو الهلاك معهم وأن في حبه وحده الخلاص والعتق والحرية‏.‏ ـ وكيف تنظر إلى وجهه؟ ـ أستشفه في صدح الطيور وفي نور الفجر‏, ‏في جناح الفراش وفي بصمة الاصبع وفي عطر الوردة وفي العدل المستتر وراء الألم والحكمة الخافية في العذاب.. وأشعر به في استسرار الليل وإبهام الموت وطلسم القدر.. أحس به في الحقائق التي تلقي في عقلي بلا لغة وبلا عبارة وفي السكينة التي تسعفني ساعة الخطر وفي الوضوح الرائع الذي يتجلي علي لحظة الأزمة.. وفي الإحساس الحميم بالصحبة والونس وأنا وحدي‏, ‏وفيما هو أكثر من ذلك من لطائف الأسرار التي يمكن أن تحدث بين العبد وربه مما لا يكتب ولا يقال‏.‏ ـ أهناك شيء لا يمكن أن يقال؟ ـ كل ما هو مطلق لا يمكن أن يقال‏.‏ ـ وكيف نعرفه؟ ـ لا نعرفه ولكن نكابده.. إحساسك بذاتك مكابدة وليست معرفة ومع ذلك‏, ‏فهي أعلي من جميع المعارف في درجة اليقين.. ذاتك أمر لا يرقي إليه شك.. ومع ذلك‏, ‏فهي أمر لا يمكن أن يتوضح كما تتوضح سائر المعارف.. والحقائق العليا كلها مكابدات وليست معارف.. والمتصوفة يسمون هذا الإحساس بالله.. حضورا.. وحضرة‏.‏ ـ وهل يمكن أن نصل إلى هذه الحضرة بالاجتهاد؟ ـ لا نستطيع إلا أن يساعدنا هو‏.‏ ـ وهل دخلت هذه الحضرة؟ ـ أنا أبعد الناس عن هذا الشرف‏, ‏أنا حالي مثل حالك ومثل حال المرحوم الذي دفناه اليوم ومثل حال الخاطئين الذين يتقلبون مع الليل والنهار‏. ‏ولكني أحاول.. ‏مجرد محاولة‏.‏ مصطفى محمود
اقتباسات أخرى للمؤلف