طه حسين
وكان في مكة من أزواج النبيّ حفصة بنت عمر وأم سَلَمة وعائشة بنت أبي بكر. وقد أخذت عائشةُ طريقها إلى المدينة بعد أن قضت مناسكها، وعرفت أثناء سفرها مقتل عثمان وخُبّرت بأن طلحة قد بُويع له فأظهرت بذلك ابتهاجاً. فقد كان طلحة مثلها تَيْميّاً. ولكنها لقيت في طريقها من أنبأها بحقيقة الأمر وبأن عليّاً هو الذي تمّت له البيعة في المدينة. فضاقت بذلك ضيقاً شديداً وأعلنت أنها كانت تؤثر انطباق السماء على الأرضَ قبل أن ترى عليّاً وقد أصبح للمسلمين إماماً. ثم قالت لمن كان معها: ردُّوني. فرجعوا بها أدراجهم إلى مكة. وكان معروفاً أن عائشة رحمها الله لم تكن تحب عليّاً ولا تهواه، بل كان معروفاً أنها كانت تجد عليه مَوْجدة شديدة منذ حديث الإفك حين أراد عليّ أن يواسى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأشار عليه بأن يطلقها وقال له: إن النساء غيرها كثير. . وكان ذلك قبل أن يُنزل الله براءتها في القرآن. فلم تنسَ لعليّ قوله ذاك. وكانت عائشة شخصية من أقوى الشخصيات التي عرفها تاريخ المسلمين في ذلك العهد، لم تكن رفيقة كأبيها وإنما كانت شديدة كعُمَرَ، على احتفاظ منها بكثير مما ورثت العرب عن جاهليتها. فكانت تحفظ الشعر وتكثر من حفظه وإنشاده والتمثل به، حتى إنها رأت أباها وهو يحتضر، فتمثَّلت قول الشاعر: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حَشْرجت يوماً وضاق بها الصدرُ وسمعها خليفةُ رسول الله أبوها فقال لها كالمنكر عليها: بَخٍ بَخٍ يا أم المؤمنين! هلا تلوث قول الله عز وجل: ﴿وجاءَتْ سَكْرةُ الموْتِ بالحق ذلك ما كنت منه تَحِيد﴾. وكانت من أشد نساء النبيّ إنكاراً على عثمان، لم تتحرّج أن تصيح به من وراء سترها وهو على المنبر حين عاب عبدَ الله بن مسعود فأسرف في عيبه. ولم تكن تتحفّظ من الاعتراض على كثير من أعمال عثمان ومن سيرة عمّاله حتى ظن كثير من الناس أنها كانت من المحرّضين على الثورة به. وكانت تُنكر على عليّ فيما أعتقد أمرين آخرين: أحدهما لم يكن لعليّ فيه خيَرة، فقد تزوّج فاطمةَ بنت رسول الله ورُزق منها الحسن والحسين، فكان أبا الذرية الباقية للنبيّ، ولم يُتح لها هي الولد من رسول الله، مع أنه قد أتيح لمارية القبطية أم إبراهيم في أواخر أيام النبيّ. فكان هذا العُقيْم يؤذيها في نفسها بَعضَ الشيء، ولا سيما وهي كانت أحبَّ نساء النبي إلى النبيّ. أما الأمر الآخر فهو أنّ عليّاً قد تزوج أسماء الخثْعميَّة بعد وفاة أبي بكر رحمه الله، وأسماءُ الخثعمية هي أم محمد بن أبي بكر الذي نشأ في حجر عليّ، فكانت عائشة تجد على عليّ لهذا كله. وقد عادت إلى مكة مغاضبةً حين عرفت أن أهل المدينة قد بايعوا له. فلما رجعت إلى مكة عمدت إلى الحِجْر فاتخذت فيه ستراً وجعل الناس يجتمعون إليها فتحدّثهم من وراء الستر: تُنكر قتل عثمان وتقول: لقد غضبنا لكم من لسان عثمان وسوطه، وعاتبناه حتى أعتب وتاب إلى الله وقَبِل المسلمون منه، ثم ثار به جماعة من الغوغاء والأعراب فماصُوه مَوْص الثوب الرخيص حتى قتلوه، واستحلّوا بقتله الدم الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام. ― طه حسين, الفتنة الكبرى: علي وبنوه 4 likes Like أحس أن لغيره عليه فضلا، وأن إخوته وأخواته يستطيعون ما لا يستطيع، وينهضون من الأمر ما لا ينهض له. وأحس أن أمه تأذن لإخوته في أشياء تحظرها عليه، وكان ذلك يُحْفِظه. ولكن لم تلبث هذه الحفيظة أن استحالت إلى حزن صامت عميق؛ ذلك أنه سمع إخوته يصفون ما لا علم له به، فعلم أنهم يرون ما لا يرى. طه حسين
اقتباسات أخرى للمؤلف