طه حسين
ما أكثر الذين كانوا يرحلون من العراق ومن الحجاز ليلحقوا بمعاوية، مؤثرين دنياه على دين عليّ. فلم يكن عليّ يعرض لهم، ولا يستكرههم على البقاء معه، ولا يصدّهم عن اللحاق بالشام. كان يرى أنهم أحرارا يتخذون الدار التي تلائمهم، فمن أحب الهدى والحق أقام معه، ومن رضى الضلال والباطل لحق بمعاوية. وقد كتب عاملُه على المدينة سهلُ بن حُنيف يذكر أن كثيراً من أهلها يتسللون إلى الشام. فكتب إليه عليّ يُعزِّيه عن هؤلاء الناس وينهاه عن أن يعرض لهم أو يُكرههم على البقاء في طاعته. وكانت هذه سيرته مع الخوارج أيضاً، يُعطيهم نصيبهم من الفيء ولا يَعرض لهم بمكروه ما أقاموا معه، ولا يردّ أحداً منهم عن الخروج إن هَمّ به، ولا يأمر أحداً من عمَّاله بالتعرض لهم في طريقهم. فهم أحرار في دار الإسلام يتبوءون منها حيث يشاءون، بشرط ألا يُفسدوا في الأرض أو يعتدوا على الناس. فإن فعلوا أجرى فيهم حكم الله في غير هَوادة ولا لين. وربما أنذره أحدهم بأنه لن يشهد معه الصلاة ولن يُذعن لسلطانه، كما فعل الخِرِّيت بن راشد فيما مضى من خبره، فلم يبطش به ولم يعرض له وخلَّى بينه وبين حُريته. فلما خرج مع أصحابه لم يَحُل بينهم وبين الخروج. فلما أفسدوا في الأرض أرسل إليهم من أنصف منهم. كان إذاً يعرف للناس حقهم في الحرية الواسعة إلى أبعد آماد السعة، لا يستكره الناس على طاعة ولا يُرغمهم على ما لا يحبون، وإنما يشتد عليهم حين يعصون الله أو يخالفون عن أمره أو يفسدون في الأرض. طه حسين
اقتباسات أخرى للمؤلف